عن المهنة ومؤسساتها (١)
سلمان: بائع الدخان يعرف مصادر تمويلنا
يمن الله على اناس فيطلقون مؤسسات اعلامية، لا يعلم احد من اين مصادر الاموال، ولا يقول احد من اين تتمول مؤسسته، وترى المؤسسات الاعلامية تطالب بالشفافية، بينما تمويلها يعد من الاسرار المقدسة، ولا يتحدث الصحافيون علنا عن الامر، فكل المؤسسات سواء، ومن يجروء على الكلام سيصبح عاطلا عن العمل، لا بل منبوذا ولن يحظى باي فرصة للعمل في لبنان، وربما في العالم العربي.
العام ١٩٩٧ كنت على وشك مغادرة جريدة “السفير” حين استدعاني رئيس تحريرها طلال سلمان الى جلسة، يفترض انها للمصارحة، يومها اخبرته بان شقيقه مدير التحرير هو من يريد رحيلي، وهو يعلم ذلك، طبعا لم اكن بوارد ان ابدي تعاطفا وتأييدا لسياسة رئيس الحكومة حينها رفيق الحريري.
كانت “السفير” قد خاضت معركة لا هوادة فيها ضد سياسة رفيق الحريري في اعادة اعمار لبنان، سياسة بدأتها مع وصول الحريري الى السلطة، وشملت العديد من المحاور، السياسية والعمرانية والمالية، وخلالها تم ايقاف “السفير” عن الصدور لعدة ايام فصدرت بترخيص “بيروت المساء”، وصولا الى انفتاح عهد جديد من العلاقات على مشارف الانتخابات النيابية في لبنان للعام ١٩٩٦، وكانت مدخلا لتحول كامل في العلاقات بين الصحيفة والرجل الاقوى في السلطة اللبنانية بعد غازي كنعان وعبد الحليم خدام، المتحكمين الفعليين بالبلاد وسياساتها عامة.
يومها قال لي طلال سلمان حرفيا جوابا على موضوع التمويل من رفيق الحريري وتقييد سياسة الصحيفة ومنع الكتابة خارج اطار الممول: “ابو اسعد (صاحب بسطة دخان امام مبى الجريدة) يعرف مصادر تمويلنا، لم نخف يوما من اين نأخذ المال، سواء في بداية انطلاقتنا او اليوم، اخذنا من دول ومن منظمات ومن شخصيات، كيف يمكن ان ندفع الرواتب وانت تعرف الاحوال؟”
لم تكن معرفتي بالاحوال بطبيعة الحال كاملة، كنت اعلم ان حجم ثروة طلال سلمان يقدر بعشرات الملايين من الدولارات كما اخبرني عدد من المصادر المعارضة لسياسة رفيق الحريري، وكان هذا الحجم المالي لصاحب الجريدة، الذي ياتي من مصادر داعمة للجريدة، ويتسرب جزء كبير منه الى الثروة الشخصية للمالك المؤسس، لا علاقة له بمستوى الصحيفة او بمستوى رواتب الموظفين فيها او تطوير انتاجيتها.
المؤسسات الاعلامية اللبنانية، واغلبها بطبيعة عائلية، وبعضها بشكل مجلس ادارة، والاقل منها تابعة مباشرة لاحزاب، وكلها تمثل طوائف محددة، تتمول جميعا من مصادر مجهولة – معلومة، لا يقال عنها، الا في حال الخلاف بين جريدة واخرى، او محطة تلفزيونية وثانية، عندها تبدأ الملفات حول التمويلات المشبوهة بالانتشار، وتتحول الحروب الى مس بالحرام، الذي هو مصدر العيش.
مصادر للتعش
والعيش هنا ليس عيش موظفين مساكين، وصحافيين اغلبهم يحصلون على الحد الادنى للاجور، هو عيش فريق اداري سياسي اغلبه تم توظيفه لاسباب تتعلق بالولاءات، وبعضه لفتح ابواب العلاقات السياسية والمالية مع جهة محلية او خارجية، اما اصحاب المؤسسة، العائلة المؤسسة، فتلك حكاية اخرى، تتسرب اموال المؤسسة الى حساباتها المصرفية، ويتحول صاحب المؤسسة الى ثري، يبيع الجمهور المتابع لمؤسسته الى هذه الجهة السياسية او تلك.
لحق اللقاء السابق الذكر اخرى مع صاحب الجريدة، الذي استولى رويدا رويدا على جريدته من شركاء التأسيس الاول في العام ١٩٧٤ حتى اصبح مالكها الاوحد بعد خروج باسم السبع ورخصة دار الهدى من المؤسسة، ومع تحول باسم السبع الى شخصية تدور في فلك رفيق الحريري في بداية التسعينيات. ذهبت زائرا الى طلال سلمان، وباحثا عن فرصة كتابة في الصفحة الثقافية، وانا كالعادة ابحث عن عمل، واجد حينا واخسره اغلب الاحيان لمواقف ومخاطر.
كنا في العام ١٩٩٩، وكان ناشر صحيفة “السفير” يجلس خلف مكتبه، وكعادته كان بغاية اللباقة والود، وبدأ يشرح المصاعب المالية التي تعترض المهنة، كان يتحدث عن مؤتمر صحيفة “الحياة” السعودية، وكيف بامكان “الحياة” تغطية خسائر بقيمة ١٥ مليون دولار ومتابعة الصدور بفضل الاموال السعودية، ثم اضاف حرفيا:”اليوم الخليج والعرب لم يعد يهمهم ما نكتب، سواء اشتمناهم فهم لا يهتمون ولا يدفعون مقابل تحسين العلاقة، وان مدحناهم ايضا لا يهتمون بما نقول ولا يدفعون”.
كان لصاحب “السفير” صراحة دائمة، اعتدت عليها في حديثه، ولكن كان نجاح واكيم النائب المعارض والصديق لطلال سلمان، مقولة يرددها دائما امامي “كلما كبر المبلغ الواصل لطلال سلمان كلما كثرت شكواه المالية”.
لا يمكن لاحد ان ينكر ان اعلام لبنان يتعيش من المصادر المالية المعروفة ولكن السرية بنفس الوقت، لم تنشأ جريدة في لبنان او محطة تلفزيون دون ان يضع مؤسسها في رصيده مبلغا ماليا كافيا للتأسيس من جهة داعمة، ممولة، محددة ايضا لسياسته، وهو ما يعرفه ابسط مواطن لبناني، وبالتالي فان الكل يعلم سلفا ان المؤسسات انما تنظق بلسان من يدفع لها، وليس بلسان مصلحة مواطنين، او نخب، او مباديء او غيرها من الشعارات الرنانة والفضفاضة.
الرشوة الحلال
مناقشة
لا توجد تعليقات حتى الآن.